-A +A
منى المالكي
نجح الجنرال شارل ديجول حينما أدرك قيمة الثقافة والأدب وجعلهما أساساً لنظرية الهوية الفرنسية، وعاد من منفاه البريطاني وهو ينشد (المارسلييز) الذي ألهب به عواطف الفرنسيين تحت قصف الطائرات الألمانية المغيرة، وأكد ذلك حينما علق على جدران مكتبه في الإليزيه صورة مثقف فرنسي غير معروف، قيل إنه أطلق النار من مسدسه على رأسه عندما شاهد أول دبابة ألمانية تدخل إلى عاصمة وطنه (باريس).

هنا تجمع الثقافة الشعوب حول رمز ضارب في وجدانهم يستطيع تحريكهم لتحقيق قيم الولاء والانتماء، فهناك علاقات جذرية عند شعوب الأرض كلها في الاعتناء بالثقافة المحلية، ولديها تقاليد شعبية وموروث محلي يؤنس أفراحهم ويقوي الروابط بينهم، ولكنه لم يكن يوماً محدداً لهويتهم ومعرفاً عليهم فقط بل ما قدموه ويقدمونه لا يخجلون منه من مساهمات في الحضارة الإنسانية من علم وفن وقانون وموسيقى وأدب، فالخصوصية الشديدة برموز وطقوس دالة لا يمكن أن نحيد عنها هي المأزق الحضاري الذي نعيشه اليوم مثلاً «أصبحت الناقة المزيونة والقصيدة الشعبية وبيوت الشعر دليلاً على معايير الانتماء والأصالة، وأصبحت التظاهرات الشعبية وما يتخللها من مزايدات وتفاخر دليلاً على قوة انتماء الفرد لمجموعته بينما تجاهل الناس أن العروبة والأصالة والمواطنة قيمة أخلاقية تفرض عليك العدالة والمساواة بين الناس، وركزوا على الدماء والحروب في قصائدهم وتجاهلوا ثقافة التسامح والمروءة واحترام الجار ونجدة الملهوف وإطعام المحتاج وما في الفروسية من قيم حتى سيطرت العصبية في التسويغ للمخطئ والمعتدي في قضايا كانت الجاهلية تعد دم من يقترفها مهدراً حفاظاً على منظومة الأخلاق العربية.. فأين نتجه في ثقافة الفنجال الأول ورأس المجلس؟» فما نراه من تركيز على الموروث دونما تمييز يفقدنا هويتنا الثقافية الأصيلة التي قامت عليها حضارات كبرى في هذا العالم، فالثقافة أسلوب الحياة إجمالاً، وفي (لسان العرب) مثلاً قوله: ثقف الرجل ثقافة أي صار حاذقاً فطناً، وأصل ذلك للرماح، ثم أستعير فصار للتقويم الخلقي وهذا ما نذهب إليه هو العمل على إعادة قراءة ونقد التراث والثقافة الحاملة له أصبح الآن ضرورة ملحة في وقتنا الحاضر!


نعلم جميعاً أن كلمة (الثقافة) بما هي عليه الثقافة من إشكالية مرتبطة بعدم استقرار المصطلح والمفهوم وارتباطها بمفهوم الحضارة بشقيه المادي والثقافي، كانت سبباً في مواصلة غموض المصطلح، إلّا أنّ الاهتمام بوضع معاييرلهذا النقد ومرتكزاته يمكن استكشافها من دراسات أنثربولوجية يكون أعضاؤها مفكرينا ومثقفينا والذي يجب أن يشكلوا السواد الأعظم في لجانها هنا يمكن أن نقول إننا نبدأ الخطوة الأولى الصحيحة في تخليص ثقافتنا العربية مما لصق بها من أنماط سائدة أصبحت هي المرجعية في تسويق نظرة العالم لنا، وقد ساهم بعض المستشرقين في ذلك للأسف وهو واجب ملح في إنشاء مشاريع ثقافية تعنى بمثل هذه الدراسات!

إنَّ الالحاح على ضروة النقد لأدبنا وثقافتنا ينطلق من مرجعية مفادها أنّ الأدب الفني والجمالي ما هو إلا ظاهرة ثقافية مضمرة تختفي خلف الخطابات المعلنة، وتشير إلى سياقات تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية غير معلنة هي أيضاً، ولهذا فإنّ هذا النقد يفكك النصوص والخطابات في كلياتها، ويكشف عمّا وراء سطحية اللغة، بما فيها من جماليات، ويكشف ما تضمره من أنساق، مستعيناً بمعارف إنسانية «اجتماعية ونفسية وأنثروبولوجية»... فمن خلال تلك الخطابات الجماهيرية نتعرّف على القيم الحضارية والإنسانية التي عكستها مقامات الهمذاني والحريري مثلاً يقابلها اليوم هذا الأدب الرقمي والنكات والأهازيج والأغاني والرسومات، بما تعكسه من أنساق جماهيرية تفتّت المسكوت عنه.

كاتبة سعودية

monaalmaliki@